فصل: تفسير الآيات (39- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (20- 26):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه وبعد الجبابرة ملكهم، ولأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء. وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وكانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية. وقيل: من له بيت وخدم، أو لأنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله فسمي إنقاذهم ملكاً {وءاتاكم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن العالمين} من فلق البحر وإغراق العدو وإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام ونحو ذلك من الأمور العظام أو أراد عالمي زمانهم {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أي المطهرة أو المباركة وهي أرض بيت المقدس أو الشام {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قسمها لكم أو سماها أو كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم} ولا ترجعوا على أعقابكم مدبرين منهزمين من خوف الجبابرة جبناً أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.
{قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا} بالقتال {حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بغير قتال {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بلا قتال {فَإِنَّا داخلون} بلادهم حينئذ {قَالَ رَجُلاَنِ} كالب ويوشع {من الّذين يخافونَ} الله ويخشونه كأنه قيل رجلان من المتقين وهو في محل الرفع صفة ل {رجلان} وكذا {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالخوف منه {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون} أي انهزموا وكانت الغلبة لكم، وإنما علما ذلك بإخبار موسى عليه السلام {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق وترك التملق للخلائق {قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} هذا نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد {أَبَدًا} تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول {مَّا دَامُواْ فِيهَا} بيان للأبد {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} من العلماء من حمله على الظاهر. وقال: إنه كفر منهم وليس كذلك إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً وكفروا به لحاربهم موسى ولم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء، ولكن الوجه فيه أن يقال: فاذهب أنت وربك يعينك على قتالك، أو وربك أي وسيدك وهو أخوك الأكبر هارون، أو لم يرد به حقيقة الذهاب ولكن كما تقول: {كلمته فذهب يجيبني} تريد معنى الإرادة كأنهم قالوا أريدا قتالهم: {فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون} ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم فلما عصوه وخالفوه {قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ} لنصرة دينك {إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} وهو منصوب بالعطف على {نفسي} أو على اسم {إن} أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه، أو مرفوع بالعطف على محل {إن} واسمها، أو على الضمير في {لا أملك} وجاز للفصل أي ولا يملك أخي إلا نفسه، أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي وأخي كذلك، وهذا من البث والشكوى إلى الله ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة وكأنه لم يثق بالرجلين المذكورين كل الوثوق فلم يذكر إلا النبي المعصوم، أو أراد ومن يؤاخيني على ديني {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله وهو في معنى الدعاء عليهم، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله:
{وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11].
{قَالَ فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبد كقوله {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} [القصص: 12]. والمراد بقوله {كتب الله لكم} أي بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل: فإنها محرمة عليهم، أو المراد فإنها محرمة عليهم: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} فإذا مضى الأربعون كان ما كتب فقد سار موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتحها وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض. و{أربعين} ظرف التحريم والوقف على سنة أو ظرف {يَتِيهُونَ في الأرض} أي يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً أربعين سنة والوقف على {عليهم}. وإنما عوقبوا بالحبس لاختيارهم المكث فكانوا مع شدة سيرهم يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في ستة فراسخ. ولما ندم على الدعاء عليهم قيل له: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون. قيل: لم يكن موسى وهارون معهم في التيه لأنه كان عقاباً وقد سأل موسى ربه أنه يفرق بينهما وبينهم. وقيل: كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلاماً لا عقوبة. ومات هارون في التيه، وموسى فيه بعده بسنة، ومات النقباء في التيه إلا كالب ويوشع.
ثم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقص على حاسديه ما جرى بسبب الحسد ليتركوه ويؤمنوا بقوله:

.تفسير الآيات (27- 38):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)}
{واتل عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب {نَبَأَ ابنى ءَادَم} من صلبه هابيل وقابيل، أو هما رجلان من بني إسرائيل {بالحق} نبأ ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين، أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة، أو واتل عليهم وأنت محق صادق {إِذْ قَرَّبَا} نصب بالنبأ أي قصتهما وحديثهما في ذلك الوقت، أو بدل من النبأ أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف {قُرْبَاناً} ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة. يقال: قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب، والمعنى إذ قرب كل واحد منهما قربانه دليله {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} قربانه وهو هابيل {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} قربانه وهو قابيل. رُوي أنه أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسده عليها أخوه وسخط فقال لهما آدم: قربا قرباناً فمن أيكما قبل يتزوجها فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل وهو قوله {قَالَ لأقْتُلَنَّكَ} أي قال لهابيل {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} وتقديره: قال لم تقتلني:؟ قال: لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني. فقال: إنما يتقبل الله من المتقين وأنت غير متق فإنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي. وعن عامر ابن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك وقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
{لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ} بماد {يَدَىِ} مدني وأبو عمرو وحفص {إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكن تحرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت، وقيل: بل كان ذلك واجباً فإن فيه إهلاك نفسه ومشاركة للقاتل في إثمه، وإنما معناه ما أنا بباسط يدي إليك مبتدئاً كقصدك ذلك مني، وكان هابيل عازماً على مدافعته إذا قصد قتله وإنما قتله فتكاً على غفلة منه. {إنّي أخاف}: حجازي وأبو عمرو {إِنّى أُرِيدُ} {إنّي} مدني {أَن تَبُوءَ} أن تحتمل أو ترجع {بِإِثْمِى} بإثم قتلي إذا قتلتني {وَإِثْمِكَ} الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد، وإنما أراد ذلك لكفره برده قضية الله تعالى أو كان ظالماً وجزاء الظالم جائز أن يراد {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فوسعته ويسرته من طاع له المرتع إذا اتسع {فَقَتَلَهُ} عند عقبة حراء أو بالبصرة والمقتول ابن عشرين سنة {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين * فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ في الأرض لِيُرِيَهُ} أي الله أو الغراب {كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ} عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده.
رُوي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فحينئذ {قَالَ ياويلتي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ} عطف على {أكون} {سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ولم يندم ندم التائبين، أو كان الندم توبة لنا خاصة أو على حمله لا على قتله. ورُوي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلاً. فقال: بل قتلته ولذا اسود جسدك. فالسودان من ولده. وما رُوي أن آدم رثاه بشعر فلا يصح لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.
{مِنْ أَجْلِ ذلك} بسبب ذلك وبعلته {وذلك} إشارة إلى القتل المذكور. قيل: هو متصل بالآية الأولى فيوقف على {ذلك} أي فأصبح من النادمين لأجل حمله ولأجل قتله. وقيل: هو مستأنف والوقف على {النادمين} و{من} يتعلق ب {كتبنا} لا ب {النادمين} {كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل} خصهم بالذكر وإن اشترك الكل في ذلك لأن التوراة أول كتاب فيه الأحكام {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً} الضمير للشأن و{من} شرطية {بِغَيْرِ نَفْسٍ} بغير قتل نفس {أَوْ فَسَادٍ في الأرض} عطف على {نفس} أي بغير فساد في الأرض وهو الشرك، أو قطع الطريق وكل فساد يوجب القتل {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} أي في الذنب. عن الحسن: لأن قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله عليه والعذاب العظيم، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك {وَمَنْ أحياها} ومن استنقذها من أسباب الهلكة من قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} جعل قتل الواحد كقتل الجميع، وكذلك الإحياء ترغيباً وترهيباً لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور أن قتلها كقتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، وكذا الذي أراد إحياءها إذا تصور أن حكمه حكم جميع الناس رغب في إحيائها {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ} أي بني إسرائيل {رُسُلُنَا} {رُسلنا}: أبو عمرو {بالبينات} بالآيات الواضحات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} بعدما كتبنا عليهم أو بعد مجيء الرسل بالآيات {فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ} في القتل لا يبالون بعظمته.
{إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي أولياء الله في الحديث: «يقول الله تعالى: من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» {وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَاداً} مفسدين، ويجوز أن يكون مفعولاً له أي للفساد وخبر {جزاء} {أَن يُقَتَّلُواْ} وما عطف عليه وأفاد التشديد الواحد بعد الواحد ومعناه أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل {أَوْ يُصَلَّبُواْ} مع القتل إن جمعوا بين القتل وأخذ المال {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم} إن أخذوا المال {مّنْ خلاف} حال من الأيدي والأرجل أي مختلفة {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} بالحبس إذا لم يزيدوا على الإخافة {ذلك} المذكور {لَهُمْ خِزْىٌ في الدنيا} ذل وفضيحة {وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} فتسقط عنهم هذه الحدود لا ما هو حق العباد {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم بالتوبة ويرحمهم فلا يعذبهم.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} فلا تؤذوا عباد الله {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} هي كل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات {وجاهدوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعاً} من صنوف الأموال {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وأنفقوه {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ليجعلوه فدية لأنفسهم. و{لو} مع ما في حيزه خبر {إن}، ووحد الراجع في {ليفتدوا به} وقد ذكر شيئان لأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: لِيَفْتَدُواْ بِذَلِكَ {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فلا سبيل لهم إلى النجاة بوجه {يُرِيدُونَ} يطلبون أو يتمنون {أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم.

.تفسير الآيات (39- 41):

{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}
{والسارق والسارقة} ارتفعا بالابتداء والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة أو الخبر {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} أي يديهما والمراد اليمينان بدليل قراءة عبد الله بن مسعود، ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط لأن المعنى: والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما. والاسم الموصول يضمن معنى الشرط، وبدأ بالرجل لأن السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر، وأخر الزاني لأن الزنا ينبعث من الشهوة وهي في النساء أوفر. وقطعت اليد لأنها آلة السرقة ولم تقطع آلة الزنا تفادياً عن قطع النسل. {جَزَاء بِمَا كَسَبَا} مفعول له {نكالا مّنَ الله} أي عقوبة منه وهو بدل من {جزاء} {والله عَزِيزٌ} غالب لا يعارض في حكمه {حَكِيمٌ} فيما حكم من قطع يد السارق والسارقة {فَمَن تَابَ} من السرقة {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} سرقته {وَأَصْلَحَ} برد المسروق {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} يقبل توبته {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر ذنبه ويرحمه {أَلَمْ تَعْلَمْ} يا محمد أو يا مخاطب {أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُعَذّبُ مَن يَشَاء} من مات على الكفر {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} لمن تاب عن الكفر {والله على كُلّ شَئ} من التعذيب والمغفرة وغيرهما {قَدِيرٌ} قادر. وقدم التعذيب على المغفرة هنا لتقدم السرقة على التوبة.
{يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ في الكفر} أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم. يقال أسرع فيه الشيب أي وقع سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر وقوعهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئووها {مِنَ الذين قَالُواْ} تبيين لقوله: {الذين يسارعون في الكفر} {ءَامَنَّا} مفعول {قالوا} {بأفواههم} متعلق ب {قالوا} أي قالوا بأفواههم آمنا {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} في محل النصب على الحال {وَمِنَ الذين هَادُواْ} معطوف على {من الذين قالوا} أي من المنافقين واليهود. ويرتفع {سماعون لِلْكَذِبِ} على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم سماعون والضمير للفريقين، أو سماعون مبتدأ وخبره {من الذين هادوا}، وعلى هذا يوقف {على قلوبهم}، وعلى الأول {على هادوا}. ومعنى سماعون للكذب يسمعون منك ليكذبوا عليك بأن يمسخوا ما سمعوا منك بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير {سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لم يَأتُوك} أي سماعون منك لأجل قوم آخرين من اليهود وجّهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منك {يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه} أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا موضع.
{يحرفون} صفة لقوم كقوله {لم يأتوك}، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم يحرفون، والضمير مردود على لفظ الكلم {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} المحرف المزال عن مواضعه ويقولون مثل يحرفون. وجاز أن يكون حالاً من الضمير في {يحرفون} {فَخُذُوهُ} واعلموا أنه الحق واعملوا به {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} وأفتاكم محمد بخلافه {فاحذروا} فإياكم وإياه فهو الباطل. رُوي أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} ضلالته وهو حجة على من يقول: يريد الله الإيمان ولا يريد الكفر {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً} قطع رجاء محمد صلى الله عليه وسلم عن إيمان هؤلاء {أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} عن الكفر لعلمه منهم اختيار الكفر وهو حجة لنا عليهم أيضاً {لَهُمْ في الدنيا خِزْىٌ} للمنافقين فضيحة ولليهود جزية {وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي التخليد في النار.